معرفة

خواطر ليلة من رمضان

ترى، ماذا يكون مآل الإنسانية إذا جرَّد الإنسان الحياة مما أودع الله فيها من جلالٍ وجمال، وترك الكون هيكلاً بشعًا محطّمًا، وهو يزعم أنه يبحث ويكشف الأسرار؟

future الكاتب المصري محمد فريد أبوحديد

مقال للكاتب المصري محمد فريد أبوحديد (1897-1967)، الذي يعد واحدًا من من أبرز كتاب عصر النهضة المصرية في النصف الأول من القرن الـ20. نُشِر بمجلة الثقافة في 11 رمضان 1369 هجرية (26 يونيو 1950).

وأبوحديد، هو رائد أدبي، مارس الكتابة والتأليف والترجمة والإدارة الثقافية لما يزيد على نصف قرن، وقد كان عضواً نشطاً وفعالاً في لجنة التأليف والترجمة والنشر (تلك اللجنة التي قدمت للثقافة والأدب العربي ما لم تقدمه مؤسسات كبرى مجتمعة) له عدد كبير من الروايات، معظمها تاريخي، فهو أحد رواد الرواية التاريخية في أدبنا العربي المعاصر. كما ترجم أعمالاً مميزة للأطفال واليافعين.

جلستُ في هذه الليلة من رمضان عقب الإفطار في حارة، بعيدًا عن الضوء والضوضاء، أمتع نفسي حينًا بالأشعة الخالدة المتلألئة من عوالم السماء، وما هي إلا لحظات حتى احتواني السكون الفسيح، وبعد عن حسي صخب الحياة، ووجدت كأنني أسمو إلى عالم آخر عرفته في وقت من أوقات حياتي، ثم عدت إليه بعد فترة انقطاعٍ واحتجاب.

ناجيتُ الهلال في أول ليلة وهو يفتح ذراعيه للزهرة التي انتحت عنه ناحية، لا هو يتقدم إليها ولا هي تفر منه، فكأنهما يصوران في الكون رمزًا خالدًا لمعنى قدسي. وناجيتُ النجوم مجتمعة في أبراجها، موزعة في فضائها، لا تقدم إحداها شعرة عن موضعها ولا تتأخر؛ هكذا يمسكها الرحمن من أقدم الأزل إلى أبد الآبد.

وما زلت أقلب بصري وعقلي فيما حولي حتى انبلج من الشرق خيط من النور ينفس في الظلام كالأمل الطالع في القلب المؤمن أو القلب النبيل.

السر القديم

هذا هو الليل الذي كنت أملأ منه نفسي في شبابي، وهذه هي العوالم التي كنت أقلب فيها بصري وعقلي خاشعًا، أسألها عن سرها القديم الذي أوحى إلى آلاف القرون. وأعادت إليَّ هذه الجلسة شُعلة من الوجد كان يغمر نفسي كلما خلوتُ تحت السماء في صحبة دراري العلا.

وخطرت على قلبي خطرة من نبأ قرأته في إحدى صحف الصباح، إذ قيل إن أمريكا فتحت مكتبًا في نيويورك لحجز مقاعد في الطائرات لمن أراد السفر إلى الكواكب، وحدد الموعد في شهر مارس من عام ١٩٧٥. فسألتُ نفسي: ماذا يكون لو استطاع ذلك الأمريكي أن يحقق وعده الجريء؟

ثم سألت النجوم: لمَ تبالغ في كتمان سرها عن هذا العالم المأفون حتى يجرؤ أمريكي على مثل هذا التدنيس؟ ثم تساءلت: ماذا يكون مصير هذه الحياة إذا استطاع الإنسان أن يهتك كل الأستار، وأن يخترق كل الحجب، وألا يبقى في الكون معقلًا للجلال؟

أرأيتَ الإيمان وقد نُزع من كل مقدس، وظهرت صورة غرائزه في كل مطهر، ومدّ يده بالتحطيم إلى كل خَفي، وكل لطيفٍ دقيق الهندسة؟ أليس الإنسان في ذلك كمثل الطفل يعبث بالآلة الدقيقة؛ وما يزال يعبث بها حتى يفككها ويزيل عنها سرَّ إبداعها، ثم يتأمل قطعها المبعثرة وقد زال عنها رونقها، فلا يجد في نفسه إلا الخيبة والحسرة؟ فإذا حاول أن يعيد إنشاءها وإرجاعها إلى سابق صورتها ظهر عجزه وضعفه، فإن الخلق والتكوين أسمى من مقدرته وأبعدّ من سلطانه.

مآل الإنسانية

ترى، ماذا يكون مآل الإنسانية إذا مضى الإنسان في هذا العبث الشنيع؛ فجرَّد الحياة مما أودع الله فيها من جلالٍ وجمال، وترك الكون هيكلاً بشعًا محطّمًا، وهو يزعم أنه يبحث ويحلل ويكشف الأسرار؟.

ماذا جنى الإنسان على الحب عندما زعم أنه يحلله ويشرحه، فلم يزد على أن أطلق عليه اسمًا جديدا (شائهًا) ضيَّع كرامته وأزاله من محرابه الطاهر؟ ماذا جنى فرويد وأضرابه على عاطفة البنوة والأمومة؛ بل ماذا جنوا على عاطفة الصداقة عندما أمعنوا في التحليل والتشريح، فزعموا أنهم بلغوا ما وراء الأستار وكشفوا خفايا النفس البشرية، مع أنهم لم يزيدوا على أن دنسوا المقدس بأن أطلقوا عليه الأسماء التي تعود الناس أن يطلقوها على المدنس؟

لقد كانت الإنسانية تقف مشدوهة أمام جلال الكون، من سماء عالية ونجوم لامعة وهلالٍ يتكامل يومًا بعد يوم حتى يصير بدرًا، ثم ينحدر متناقصًا حتى يحجبه المحاق بعد دورته الشهرية، وكانت الشمس في مسيرها اليومي تملؤه خشوعًا، والمطر إذ ينهمر، والعاصفة والرعد إذ يجلجل، والبرق إذ يخطف، كل ذلك كان يقع من نفسه موقعًا يجعله يدرك نسبته إلى قوى الكون ويقرُّ بجبروتها.

وكانت مناظر الغابة والجبل العالي، والثلوج البيضاء التي تتوج رأسه، والبحر الهادئ حينًا والهائج أحيانًا، كل ذلك يملأه روعةً وإجلالًا، ويوقع في نفسه من معاني الجلال والجمال ما يملأ حياته فخرًا. وكانت الإنسانية تعثر في حياتها وتتطلع دائمًا إلى بعض معالم من المثل العليا، فكانت تعد تلك المثل نهائية مطلقة، لا تبيح مناقشتها ولا الخروج عليها.

كانت ترى الصداقة حقًّا نهائيًّا مطلقًا، وكانت تعلي قدر الوفاء والكرم والشجاعة والرحمة والإيثار وما إليها من الفضائل، وتعدها جميعًا من الحقائق البشرية التي لا تحتمل الجدل ولا المراجعة.

غير أن العالم الحديث لم يتردد في الهجوم على هذه المعاقل الحصينة، وزعم أن هدمها وتبرير الشك بها هو قمة مدنيته المبنية على العلم، فما زال يهدمها حتى أدخل إليها الشك والوهن وأفقدها سلطانها الروحي، فإذا هو اليوم بلا مثال عادل، ولا من حقٍ ثابتٍ مطلق، ولا حدود واضحة بين ما هو حلال وما هو حرام في حياة الإنسان.

ويبدو لي أن العالم الحديث قد خرج بهذا الاتجاه عن سنة الإنسانية الطبيعية، وأنه لا بد عائد إليها ولو بعد حين، عندما تصدمه الوقائع صدمات تعيد إليه وعيه واتزانه.

فالشعور بالحلال والتأثر بقدسية جمال الكون، ووجود الحدود والمثل العليا، أمر طبيعي وضروري لكل حياة اجتماعية.

حفظ كيان الإنسان

وما دام الإنسان يحيا في مجتمعات، فإن الحدود والمثل العليا  وتقدير الجمال لازمة  لحفظ كيانه، وغيرها تحل الفوضى محل النظام، ويسود الخصام والاعتداء، وتعود الحياة إلى قوانين الغاب_ فوضى يحكمها الصنف، ويكون فيها الحق للقوي، وتنعدم فيها هذه العناصر العليا التي ميزت الحياة الإنسانية على مر الدهور ورفعتها فوق مرتبة الحيوان؛ بل إن هذه المشاعر السامية والحدود المطلقة والمثل العليا هي التي مكنت الإنسان أن يصبح سيد الأرض ويتسامى إلى مرتبة أعلى من الحيوانية.

وأقل تأمل في هذا المعنى يظهر جليًّا أن الخشوع للجلال والجمال، وتقديس الحدود والمثل العليا، معانٍ طبيعية ينزع الإنسان إليها من تلقاء نفسه بحكم حياته الاجتماعية.

فالأطفال إذا أرادوا تنظيم لعبة من ألعابهم الاجتماعية، أحسوا جلالها وجمالها، وعرفوا الضرورة التي تدعوهم إلى الاتفاق على أصولها، ويرون في الخروج عليها إفسادًا لجمالها وروعتها وتضييعًا لجهودهم فيها، فيؤثرون إبطال اللعبة على المضي فيها إذا حاول بعضهم إنكار حدودها أصولها أو الخروج عليها.

فالعالم الحديث يشبه مجموعة من الأطفال يمارسون لعبة لها رونقها ولها أصولها وحدودها، ثم بدا لبعضهم أن يناقش تلك الأصول وتجادل في تلك الحدود، فلم تلبث اللعبة أن فسدت وفقدت جاذبيتها وحل محلها عراك وخصام وفوضى.

ومن العجيب أنّ الإنسان الحديث بعد أن اقتحم كل الحدود التي خلفتها الصور الطويلة وأحس أنه قد أفسد على نفسه حياته وسعادته عاد إلى عقله يناقش ويجادل مرة ثانية ليبحث عن طريق الخلاص مما هو فيه من الشقاء، طامعًا أن يهتدى إلى وسيلة جديدة تعيد إلى حياته النظام والهدوء.

وأخذ يفكر في توثيق الروابط الدولية، وجعل يقيم اليونسكو وغير اليونسكو (ليقر) بين الناس السلام ، وبذل في ذلك جهودًا كبيرة وتضحيات جسيمة، مع أنه لن يبلغ من وراء كل هذه الجهود التضحيات إلا الخيبة المرة.

 ذلك؛ لأنه قد حطم المعالم الجليلة التي تعود أن يخشع لها ويطلب هدايتها، واقتحم المعاقل التي كانت تعصمه، وهي تلك الحدود الطبيعية والمثل العليا التي كان يتطلع إلى بلوغها، ويحاول الأفراد أن يتقيدوا بها ويستوحوها في حياتهم الخاصة والعامة.

ولو استطاع ساسة العالم وقادة الحوادث الكبرى فيه أن يفتحوا عيونهم وقلوبهم الجلال السماء في ليلة مثل هذه الليلة من رمضان، ولو استطاع أرباب الاقتصاد وعمالقة الصناعة أن يخلوا إلى أنفسهم ساعة في تأمل جلال هذا الكون، وأباحوا لأنفسهم أو أباحت لهم أنفسهم أن يحسوا شيئاً من ذلك الجلال، ويخشعوا له – لو حدث هذا لوجدوا المخلص من فوضى هذه الحياة الحديثة التي تهدد الإنسانية بالفناء.

إن المخلص يسير، ولا يكلف الإنسان إلا أن يرد نفسه إلى تقديس الجمال والجلال في الكون، وأن يعيد إلى قلبه الإيمان الطبيعي بالحدود والمثل العليا التي كانت من قبل هي أمل الإنسانية في حياتها الخاصة والعامة.

# رمضان # دين # خواطر

مسلسل «قلبي ومفتاحه»: ماما زمانها جاية
أشغال شقة جدًا: هشام ماجد وحفرة الكوميديا المصرية
الثقافة الرمضانية والوظيفة الفسيولوجية للفن

معرفة